1 . الأعمال غير التقليدية:
يتضح فشل المقدمة المنطقية، كما يرى حسين حلمى المهندس، فى الأعمال غير التقليدية، وهو يتساءل “هل تصلح المقدمة المنطقية ـ بمفهومهم ـ فى الأعمال ذات النهاية المفتوحة أو الأفلام الشخصية أو الواقعية بمعناها الحقيقى أو الأعمال التى تكتفى بفضح المخازى وإلقاء الأضواء عليها أو الأعمال التحريضية؟ ربما يقولون مثلًا عن الأخيرة أن مقدمتها المنطقية هى ’’إن الظلم الاجتماعى يؤدى إلى غضب الجماهير‘‘.
ونحن نرد عليهم بأن مثل هذه الأعمال لا تستهدف بالقطع إثبات نظرية أو البرهنة على حتمية الغضب ولكنها تعمل على ’’إثارة‘‘ الجماهير فعلًا حتى ’’تتحرك‘‘ وتقضى على الظلم الاجتماعى. وفارق كبير بين الاتجاهين، فإثبات النظرية مغلق على نفسه ويمكن اعتباره مجرد عبرة أو تحذير لمن يقترف الظلم الاجتماعى. أما الاتجاه الحقيقى فهو ’’تحريك‘‘ الجماهير كما قدمنا.
(أرجو أيضًا ألا يقولوا بأن المقدمة المنطقية يمكن أن تتعدل إلى أن: ’’الظلم الاجتماعى يؤدى إلى تحريك الجماهير‘‘1؟
1 . 1 . الأعمال ذات النهاية المفتوحة:
لا يقدم حسين حلمى المهندس دليلًا ملموسًا على فشل المقدمة المنطقية فى الأعمال ذات النهاية المفتوحة، وأن هذه الأعمال “لا تستهدف بالقطع” إثبات نظرية. ولو قلنا إن الأعمال ذات النهاية المفتوحة Open-ending هى الأعمال التى لا تحسم صراعها بصورة واضحة كعادة الأعمال ذات النهاية المغلقة، وتترك للمتلقى أن يتخيل يسير الأحداث فى المستقبل، فإن هذا لا يمنع “بالقطع” أن يكون لدى العمل مقدمة منطقية؛ فلو ركز المتلقى مع العمل واسترجع كافة تفاصيله ودرسها ووصل فى النهاية إلى أن العالم الذى نعيشه لا يقدم حلولًا بسيطة لمشكلاتنا، فقد يصيغ المتلقى أو صانع العمل من قبله هذه الفكرة فى صورة مقدمة منطقية قائلًا: “فى عالم معقد ومشوش أخلاقيًا لا يستطيع الإنسان أن يجد حلولًا قاطعة لمشكلاته”. إن الأعمال ذات النهاية المفتوحة هى أعمال اكتملت فى هذا الشكل، فصانع العمل لم يحذف نهاية القصة وتعمد أن يقدم قصته ناقصة، بل لأن فكرته، والتى يريد توصيلها إلى المتلقى، قد وصلت بالكامل عند هذه النقطة من الفيلم، وليس هناك مبرر لإغلاق الحكاية.
إذن تستطيع الأعمال ذات النهاية المفتوحة أن تُبنى على مقدمات منطقية، خاصًة إذا أدركنا أن المقدمة المنطقية هى وسيلة، ضمن وسائل لا نهاية لها، لتقديم صورة كلية لفكرة العمل الدرامى.
2 . 1 . المقدمة المنطقية وأفلام الشخصية:
ينتقل حسين حلمى المهندس إلى الأفلام الشخصية وهو هنا يقصد غالبًا Character-centered Story، وبعيدًا عن أن كل كتب الحرفية ترفض حاليًا تقسيم السيناريو إلى سيناريوهات شخصية وسيناريوهات حبكة، فقد وضع لاوس اجرى الشخصية فى كتابه فن كتابة المسرحية فى المقام الأول، وألف كتابًا جديدًا من أجل الشخصية لدرجة أن الترجمة الإيطالية للكتاب هى فن الشخصية، ودعا كل الكتاب إلى تجاهل إعلاء أرسطو للحبكة على حساب الشخصية، فالشخصية بسماتها الجسدية والنفسية والاجتماعية والبيئة التى وُجدت فيها هى محور الاهتمام عند اجرى، ومرة أخرى لا يقدم حسين حلمى المهندس أمثلة واضحة نناقشه فيها أو دليلًا على فشل المقدمة المنطقية مع الأعمال الشخصية، لأن المقدمة المنطقية كما سوف نرى تعلق فى شكلها الأول على السلوك الإنسانى وتنتج عن تأمل الكاتب لشخصياتها وسلوكهم وتصرفاتهم وكيف أن نهايتهم موجودة فى شخصيتهم نفسها.
3 . 1 . المقدمة المنطقية والأعمال الواقعية:
ينتقل حسين حلمى المهندس إلى الأعمال الواقعية “بمعناها الحقيقى”، وهو لا يقول لنا ما هو المعنى “الحقيقى” للأعمال الواقعية، ولا يخبرنا عن الأسباب التى تؤدى لفشل المقدمة المنطقية مع الأعمال الواقعية، ولا يضرب لنا كالعادة أمثلة على هذا الرأى، ونتساءل: هل لأن الأعمال الواقعية تقدم الواقع بالكامل وبالتالى من الصعب الإحاطة به فى مقدمة منطقية؟ أم لأن صياغة السبب والنتيجة لا تصلح للأعمال الواقعية؟ إن الأعمال الواقعية لا تكتفى بالتأكيد على اتساع الواقع ولا تقول إن الواقع لا يمكن فهمه، فاختيار أحداث بعينها ووجهة نظر محددة سوف تجعل المتلقى كما نرى ينتقل إلى شكل آخر من أشكال المقدمة المنطقية، وقد يصل إلى الموضوع ويبدأ من خلاله دراسة كل شخصية لمعرفة مقدمتها المنطقية وكيف تتضافر المقدمات المنطقية معًا لتقدم رؤية صانع العمل للواقع.
ولا تفشل المقدمة المنطقية فقط مع الأعمال الواقعية، بل تفشل أيضًا مع الأعمال التى تكتفى بفضح المخازى وتلقى الأضواء عليها، وكأن هذه الأعمال تكتفى بتسليط الضوء على هذه المخازى من دون أن تكشف لنا أصلها أو تبين السبب وراء وجودها، وهو غير صحيح بالمرة، فهذه الأعمال، خاصة الطبيعية منها، تبين بقوة أسباب البداية والنهاية.
4 . 1 . المقدمة المنطقية والأعمال التحريضية:
أخيرًا يناقش حسين حلمى المهندس ما يسميه بالأعمال التحريضية ويسخر من أصحاب المقدمة المنطقية الذين يقولون إن الظلم الاجتماعى يؤدى إلى غضب الجماهير.
ربما فاتتنى السخرية، ولكن من حق صانع العمل أن يعرض الظلم فى فيلمه على أمل أن يثور المتلقى، وهو ما سوف يجعله يختار لقطات وإضاءة معينة وأسلوب معين فى التمثيل وطريقة جدلية فى المونتاج كى يحفز الجماهير على الغضب والثورة. نحن إذن نتحدث عن صياغة الفنان لخطابه السينمائى أو الهدف الكلى من عمله مع ملاحظة أن طريقة تفكيره هذه تشبه فى حقيقة الأمر المقدمة المنطقية.
واختيار الفنان أسلوب معين لإحداث ثورة فى الجماهير لا يتنافى، كما يلمح حسين حلمى المهندس، مع استخدام مقدمة منطقية للقصة، فالمتلقى يتأثر بالعمل بسبب بلاغته بالدرجة الأولى وبسبب قدرته على الإقناع، ولكن حسين حلمى المهندس يريد أن يقول إن المقدمة المنطقية تقتل النزعة الثورية للعمل لأن الفنان بمجرد أن يصيغ فكرة قصته فى مقدمة منطقية سوف تموت هذه النزعة لأنها تتعارض مع برودة المقدمة المنطقية، وذلك لأنها منطقية!، بالتالى الخطوة الأولى للفنان عندما يقرر أن يصنع عملًا ثوريًا هو أن يصيغ مقدمة منطقية!
وكالعادة لا يقدم حسين حلمى المهندس دليلًا على هذا، لأن فكرة أى قصة أو مسار أى شخصية يمكن صياغتها فى صورة مقدمة منطقية من دون أن تؤثر على بلاغة العمل. وقد يضع المؤلف مقدمة منطقية عمله تقول إن سياسات الاستعمار تؤدى إلى فناء الوطن وثقافته وثرواته الطبيعية وتقضى على فرص مواطنيه فى الحرية والتقدم، ولكنه يقدم عملًا باردًا، مباشرًا، سطحيًا ينفر الناس منه. إذن المقدمة المنطقية لا تمنع الفنان من تقديم عملًا ثوريًا، بل ضعف إمكانياته وموهبته.
وبعيدًا عن عدم وجود دليل حقيقى على برودة المقدمة المنطقية، لا يقدم حسين حلمى المهندس دليلًا على فشل الأعمال التحريضية (أو يذكر أمثلة) فى تحريض الناس على الثورة لأنها امتلكت مقدمة منطقية.
2 . المقدمة المنطقية والعبرة:
لكى يبرهن حسين حلمى المهندس على صحة رأيه فقد قرر أن يحول المقدمة المنطقية إلى عبرة أو عظة Morale أو تحذير Warning ووصفها بأنها إثبات منطقى منغلق.
وقد انتبه جيمس فراى James Frey إلى الفارق بين العظة والمقدمة المنطقية فى كتابه كيف تكتب رواية رائعة How to Write a Damn Good Novel vol 2 فالعظة هى درس تلقنه لنا القصة، وهى فى هذه الحالة لا تختلف عن تعليمات الصحة العامة أو الكتب الدينية مثل: انصت إلى والديك. لا تكذب. وهكذا. ويلفت فراى النظر إلى أن المتلقى غالبًا هو الذى يحول العمل الدرامى إلى عظة، لا صانع العمل، فقد يخرج المتلقى من فيلم من الأفلام بأنه يوصى أن لا يغضب الإنسان، والفنان الذى يكتب عملًا مبنى على عظة أو عبرة هو الذى سوف يحول عمله إلى شكل بسيط ومسطح لأن العظة دائمًا تتناسب مع الأعمال التعليمية البسيطة، وحتى أدب الأطفال فى هذه الأيام قد تجاوز هذا بكثير. ويشرح فراى أن لاوس اجرى لم يحول المقدمة المنطقية إلى عظة على الإطلاق، لأن الهدف الأساسى من المقدمة المنطقية هو البحث والتفكير ودراسة السلوك الإنسانى، وهى تفحص هذا السلوك وتدرسه السلوك، وتحاول أن تعرف أصوله وجذوره، وبالتالى هى تدفع المؤلف لأن يتساءل وأن يعرض ما يتعرض له هذا السلوك من تغيير أثناء الصراع، وتحاول أن تتنبأ بنهاية هذا السلوك. إن المتلقى من حقه أن يحول العمل إلى عظة، ولكن المؤلف سوف يقتل عمله لو فعل هذا، وهذا ما يؤكده فراى بقوله: “إن معظم القصص البوليسية قد يكون لديها عظة وهى الجريمة لا تفيد، فليس غرض المؤلف من كتابة رواية بوليسية هو أن يلقى عظة حول شرور فعل القتل، ولا غرض الناس من قراءة الروايات البوليسية هو التهذيب الأخلاقى.”2
3 . المقدمة المنطقية والسير الذاتية والقصص التاريخية:
وفقًا لحسين حلمى المهندس، لا تنجح المقدمة المنطقية مع أعمال السير أو الأعمال التاريخية، وهو ما يتضح فى سؤاله التالى: “وماذا عن الأعمال التى تقدم سير الخالدين من رجال الدين أو الحرب أو السياسة أو الفنانين أو الأدباء أو غيرهم، أو التى تقدم الأحداث التاريخية الهامة؟..
هل نفرض عليها نظريات من عندنا ونتعسف ونلوى عنق الأشياء كى نبرهن عليها؟
لا نريد أن نتعسف نحن أيضًا، ونقول بأنه من الجائز أن نجرى بعض التعديلات فى السير أو الأحداث التاريخية حتى نبرهن على مقدمة منطقية ما.”3
حتى لو استعننا بمفهوم الاستراتيجية الذى يستخدمه حسين حلمى المهندس، وسوف نعود إليه فيما بعد، فإن انصياع سير الخالدين والأحداث التاريخية لاستراتيجية الفنان لا يمنع من وجود مقدمة منطقية للعمل، فقد يكون هدف الفنان من تناول حدث معين هو أن يلقى الضوء على سبب فشله أو نجاح فنان بعينه.
ويطرح حسين حلمى المهندس سؤاله الاستنكارى “هل نفرض عليها نظريات من عندنا ونتعسف ونلوى عنق الأشياء كى نبرهن عليها؟” كى نسارع بالرفض رغم أنه، أى حسين حلمى المهندس، يعرف أنه من المستحيل أن تقدم الأعمال الفنية حدثًا تاريخيًا أو قصة حياة شخصية مشهورة بصورة كاملة ومن كافة الزوايا ووجهات النظر؛ فالحيز الزمنى للعمل الفنى سوف يفرض على صانع العمل أن يحذف أحداثًا ومواقف وشخصيات من أجل أن يقدم عملًا متماسكًا، وهو ما يفعله المؤرخ الذى يحذف ويراجع ويمحص وفقًا لمنظور معين. وقد شعر حسين حلمى المهندس نفسه بهذا، وهذا ما جعله يقول إنه من الجائز أن نجرى بعض التعديلات على القصص التاريخية وسير الخالدين من أجل إثبات مقدمة منطقية (رغم أننى كنت أتصور أن مبدأ المقدمة المنطقية لا يصلح فى كل الأحوال).
1. حسين حلمى المهندس، دراما الشاشة، مرجع سبق ذكره، ص: 62 ـ 63.↩
2. Frey, James, How to write a Damn Novel, II, Advanced Techniques for Dramatic Storytelling, (St. Martin’s Press, New York, 1994), p. 53↩
3. حسين حلمى المهندس، دراما الشاشة، مرجع سبق ذكره، ص: 62 ـ 63.↩